كانت التهديدات النووية هي الموقف الافتراضي للدول التي تمتلك أسلحة نووية لعقود من الزمن، حيث شكّلت جوهر الردع: «إذا هاجمت، فسوف ندمر مجتمعك أو أصولك العسكرية الأكثر حيوية». لكنها أضحت نادرة منذ أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962. ولذلك فقد شكلت سياسة «الترهيب النووي» من قبل المسؤولين الروس أثناء الحرب في أوكرانيا صدمة لأولئك الذين ظنوا أن نهاية الحرب الباردة جعلت منها «غرائب تاريخية».
ومع تزايد النفوذ الروسي في بيلاروسيا إلى مستويات غير مسبوقة، لم يكن أمام رئيسها ألكسندر لوكاشينكو خيار سوى دعم موسكو، وربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو استعداد بوتين لإشراك مينسك في لعبته المتهورة للغاية، والمتمثلة في حافة الهاوية النووية، ولا سيما بعد مفاجأة التوغل الأوكراني السريع في منطقة كورسك الروسية في السادس من أغسطس 2024.
نشرت بيلاروسيا طائرات وقوات دفاع جوي على حدودها مع أوكرانيا، وقال أندريه لوكيانوفيتش، قائد قوات الدفاع الجوي البيلاروسية، «لقد تم تعزيز التجمع، قوات الطيران والقوات الصاروخية المضادة للطائرات، وكذلك القوات التقنية اللاسلكية»، وذلك بعد إعلان الرئيس البيلاروسي في مقابلة مع التلفزيون الرسمي الروسي، في 18 أغسطس 2024، أنه أمر بنشر ما يقرب من ثلث الجيش على الحدود مع أوكرانيا.
تتصاعد المخاوف من دخول بيلاروسيا على خط المواجهة مع أوكرانيا، لا سيما بعد أن انخرطت في نوبة من التهديد النووي؛ حيث أعلن رئيس هيئة الأركان العامة البيلاروسية، بافيل مورافيكو، أن بلاده «يمكن أن تستخدم الأسلحة النووية غير الاستراتيجية إذا تعرض استقلالها للتهديد»، وقد جاءت تعليقاته بعد أسابيع فقط من إجراء بيلاروسيا وروسيا تدريبات نووية مشتركة تم تفسيرها على نطاق واسع على أنها محاولة لترهيب الغرب.
ثم أعلن الرئيس البيلاروسي أن بلاده «ستستخدم أسلحة نووية تكتيكية في حال تعرضها لأي عدوان». وهي الأسلحة التي أكملت روسيا نقلها إلى الأراضي البيلاروسية في أكتوبر 2023؛ حيث تستضيف مينسك أسلحة نووية على أراضيها لأول مرة منذ ما يقرب من 40 عاماً، وذلك في أعقاب استفتاء دستوري ألغت بمقتضاه بيلاروسيا وضعها كدولة خالية من الأسلحة النووية. وعلى رغم أن بيلاروسيا لا تسيطر على الرؤوس الحربية الروسية على أراضيها، فإن مينسك كتبت «عقيدة عسكرية جديدة» تؤكد على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية باعتبارها وسيلة للردع الاستراتيجي.
تعد هذه التطورات كاشفة لكيفية توظيف الكرملين، بيلاروسيا، لتصعيد حملته للابتزاز النووي ضد الغرب، وإذا كان المسؤولون البيلاروسيون يصدرون الآن تهديدات نووية من تلقاء أنفسهم، فإنهم يفعلون ذلك نيابة عن بوتين. وهو ما يتماشى إلى حد كبير مع الدور الداعم الذي لعبته مينسك طوال الحرب في أوكرانيا، فبينما تمكن لوكاشينكو حتى الآن من مقاومة ضغوط الكرملين لدخول الحرب بشكل مباشر، فقد سمح باستخدام أراضي بلاده نقطة انطلاق لغزو القوات الروسية الذي بدأ في 24 فبراير 2022.
أُقيمت العلاقات الدبلوماسية بين موسكو ومينسك في 25 يونيو 1992 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتعد بيلاروسيا حليفاً استراتيجياً لروسيا، ويشكل تعزيز التعاون في إطار دولة الاتحاد أولوية أساسية لموسكو، إلى جانب التكامل في إطار الاتحاد الاقتصادي الأوراسي. ويمكن القول إن الدولة السوفييتية السابقة تحت قيادة لوكاشينكو تحولت بسرعة إلى امتداد للأراضي الروسية. وهو ما يمكن تفسيره في ضوء الاعتبارات التالية:
أزمة الانتخابات الرئاسية 2020:
وجد لوكاشينكو، الذي حكم منذ عام 1994، نفسه في دور المتضرع أمام رئيس الكرملين؛ حيث هزت الاحتجاجات الجماهيرية في أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 2020 نظامه في الصميم، وكان دعم بوتين هو منْ ضمن بقاءه. وهو ما أفضى إلى تقديمه تنازلات على مستويين؛ السياسي: إذ عمل على تعميق العلاقات بين بيلاروسيا وروسيا بشكل كبير داخل دولة الاتحاد -وهو الأمر الذي تجنبه على مدار الـ20 عاماً الماضية- وألغى موقف مينسك المحايد بشأن شبه جزيرة القرم، ناهيك عن دعم موسكو دون تحفظ، ففي مارس 2022، كانت بيلاروسيا واحدة من خمس دول صوّتت ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدين الحرب الروسية في أوكرانيا.
الأهم من ذلك، أن لوكاشينكو قدم تنازلات على المستوى العسكري: فقد أجرت الدولتان مناورات عسكرية واسعة النطاق «زاباد 2021»، في غرب بيلاروسيا المتاخم للناتو، مما دفع وزير خارجية لاتفيا آنذاك والرئيس الحالي، إدجارز رينكيفيتش، إلى التصريح بأن «تدريبات زاباد 2021 يمكن أن تخلق حوادث بين الناتو وروسيا». وفي نوفمبر 2021، تبنت الدولتان عقيدة عسكرية جديدة داخل دولة الاتحاد. وعلاوة على ذلك، قبل حرب أوكرانيا مباشرة سُمح للقوات المسلحة الروسية بإجراء تدريبات عسكرية على الأراضي البيلاروسية أطلق عليها اسم «عزم الحلفاء 2022».
تأثير العقوبات الغربية:
تزايد اعتماد لوكاشينكو الاقتصادي على الكرملين بشكل كبير منذ احتجاجات عام 2020 بسبب العقوبات الغربية، وفي الفترة (2020 – 2022) تلقت مينسك قروضاً سخية من بوتين، مما جعل تنويع محفظة التجارة والائتمان البيلاروسية أمراً صعباً. كما تعد روسيا المُورِّد الرئيس للنفط والغاز إلى بيلاروسيا، التي تعتبر بدورها أكبر شريك تجاري في رابطة الدول المستقلة ورابع أكبر شريك في العالم لروسيا، وفق تصريحات لبوتين.
تطوير قدرات الردع:
لا يخلو دعم مينسك لموسكو من أخطار محتملة؛ فقد أكد نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل غالوزين، أن موسكو لا تستبعد احتمال إرسال «مجموعات تخريبية من القوميين البيلاروسيين (فوج كالينوسكي) الذين يقاتلون مع نظام كييف إلى بيلاروسيا للإطاحة بالقيادة الحالية». إضافة إلى قيام بولندا، العضو في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، بإعادة نشر تشكيلات عسكرية تجاه الحدود الشرقية للبلاد مع بيلاروسيا.
ثم تصاعد التوتر على الحدود الأوكرانية-البيلاروسية، بعدما كشف وزير الدفاع البيلاروسي، فيكتور خرينين، عن احتمال حدوث ما وصفها «بالاستفزازات المسلحة» من كييف بالقرب من الحدود مع بلاده. ومن هذا المنطلق، يبدو أن لوكاشينكو قد اختار تعزيز التعاون النووي مع موسكو لردع أي عدوان يستهدف بيلاروسيا.
وحدة المصير:
يبدو أن لوكاشينكو قد ربط مصير بلاده بروسيا، فقد صرّح بأنه «إذا انهارت روسيا، فسوف نُترك تحت الأنقاض وسنهلك جميعاً». وهو الربط الذي سبق أن أكده في سبتمبر 2020، إذ أشار إلى أنه «إذا انهارت بيلاروسيا، فستكون روسيا هي التالية». وهو ما يعني أن التحالف الروسي-البيلاروسي أضحى مثل الزواج الكاثوليكي؛ لا طلاق فيه أبداً، إلا تحت وطأة ظروف قاهرة.
في عام 1955، اعتبرت إدارة الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الخيارات النووية جزءاً لا يتجزأ من دبلوماسية الأزمات والتخطيط العسكري، وكانت إحدى السرديات السياسية التي اكتسبت مكانة شبه أسطورية هي الادعاء بأن إدارته نجحت في كسر الجمود الدبلوماسي في «الحرب الكورية» باستخدام التهديدات النووية ضد الصين.
في فترة الحرب الباردة شجّع امتلاك الأسلحة النووية بعض الزعماء على إطلاق تهديدات اعتقدوا أنها ستعزز مواقفهم في الأزمات، وهي السلوكيات التي تُعاد مرة أخرى مع إضفاء روسيا على حربها في أوكرانيا بعداً نووياً مميزاً؛ إذ ينظر بوتين إلى تهديداته النووية باعتبارها أداة ردع فعالة، وبدلاً من أن يتراجع، يبدو عازماً على رفع الرهانات أكثر من خلال إشراك بيلاروسيا في مخاطرته. وهو هنا يبدو أنه يستحضر النموذج الذي طوره الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون والذي يُعرف باسم «نظرية المجنون»، وهي الفكرة القائلة إن: التهديد باستخدام القوة المفرطة أو غير العادية من شأنه أن يجلب مكاسب دبلوماسية، وقد أوضح مستشار الأمن القومي هنري كيسنجر أن استراتيجية الرئيس كانت تشبه إلى حدٍ كبير لعبة البوكر؛ إذ كان يقوم بـ «دفع الكثير من أوراق اللعب، حتى يعتقد الجانب الآخر أننا قد نكون مجانين وقد نذهب إلى أبعد من ذلك بكثير».
تنص العقيدة العسكرية الروسية لعام 2010 على أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية رداً على هجوم ضد روسيا أو حلفائها بأسلحة الدمار الشامل، أو إذا هددت حرب تقليدية «وجود الدولة ذاته». في الوقت الحالي لا توجد هذه الظروف. لذلك فإن بوتين على الأرجح لا يريد الانخراط في صراع عسكري مباشر مع الناتو، لكنه قرر أن يعتمد بشكل أكبر على «تهديدات المجنون» لتحقيق مآربه. وهنا، يتراءى تساؤل مهم مفاده: إلى أي مدى يمكن لبيلاروسيا أن تصبح مشاركاً صريحاً في الحرب؟
إن السيناريو الأكثر ترجيحاً؛ هو أن تقتصر تصرفات بيلاروسيا على إصدار تهديدات لا معنى لها، ومن الواضح أن لوكاشينكو ليس مهتماً بالتورط بشكل مباشر في مستنقع أوكرانيا، وليس أدل على ذلك من تأكيده خلال مقابلة مع ديانا بانتشينكو الصحفية الأوكرانية الموالية لروسيا «إن لم تعبروا حدودنا أيها الأوكرانيون، فلن نشارك في هذه الحرب أبداً، لكننا سنساعد روسيا دوماً، إنهم حلفاؤنا».
على رغم ذلك، فإن القدرة على التنبؤ بتصرفات مينسك غير مؤكدة، بسبب النفوذ الروسي غير المتناسب هناك على الشؤون الأمنية. لذا فإن الدرس الذي يمكن استخلاصه هنا هو: قد لا تتمكن مينسك من ممارسة السيطرة الكاملة على قراراتها الأمنية، وقد تصبح أداة في أيدي روسيا إذا رأى بوتين ذلك ضرورياً.
إجمالاً؛ إن أي تقييم للآثار المترتبة على سياسة التهديدات النووية لا بد أن يكون أولياً، فالصراع لا يزال يتكشّف. بيد أن هناك أمراً واحداً مؤكداً: وهو أن الحرب سوف تُخلّف تأثيرات طويلة الأمد على نظرة العالم إلى الأسلحة النووية، وكيف يمكن السيطرة عليها، وكيف تعمل أوروبا على تطوير بنية أمنية جديدة. وذلك بالتوازي مع الصمود النسبي لصيغة «ريغان-جورباتشوف» القائلة إن:
«الحرب النووية لا يمكن كسبها ولا ينبغي خوضها أبداً».